< >
القائمة إغلاق

ماهو قصد مراعاة السنن الإلهية

حين نتعامل مع المفاهيم الإسلامية والغير إسلامية الأصل على حد سواء، لابد من النظر إلى بُعد يسمى بالسنن الإلهية، وهو بُعد تقصد الشريعة الإسلامية إلى مراعاته وتحرص على عدم التناقض معه، كما أنه يمثل الحكمة المجردة والعبرة العالية من كل فكر بشري ولو كان غير إسلامي، وهو ما يمكن أن يفيد الفكر الإسلامي من مفاهيم الآخرين، ودون أن يلزمنا أن ننقل الأشكال العملية التي اتخذتها تلك المفاهيم في بيئات وثقافات الآخرين.
والسنن الإلهية هي قوانين مطردة، خلق الله عز وجل بها الكون ويسيره على نسقها، وهي بالتعبير القرآني: فطرة الله أو سنة الله. وهذه السنن تحكم كل شيء في هذا الكون على نفس منوالها، من الذرة إلى المجرة، وتحكم على الخلية البشرية أو النباتية أو الحيوانية، والإنسان، وتجمعات الإنسان، وحضارات الإنسان، وتجمعات الحيوان، وتجمعات النباتات، وتحكم كذلك على حركة التاريخ ومسيرة المجتمعات، كلها على نفس الشاكلة.
وشريعة الله عز وجل تقصد إلى مراعاة هذه السنن خاصة في مجال المجتمع والدولة، فالله عز وجل لا يشرّع شيئًا -سبحانه وتعالى- ضد الفطرة البشرية أو ما عليه طبيعة الكون أو طبيعة البشر، فالإنسان مثلاً في فطرته غريزة التملك وحب الجاه والاستجابة للشهوة، ولذلك لا يستطيع الإنسان بفطرته أن ينعزل عن البشر تمامًا، أو أن لا يمتلك شيئًا أصلاً، أو أن لا يتزوج أبداً، ولهذا يراعي الإسلام هذه السنن الفطرية، ولكنه أيضاً ينظم تعاملات البشر فيها لتحقيق مصالحهم على العموم، ولا يحرم شيئًا من طبيعة البشر تحريمًا مطلقًا ولا يقصد إلى هذا في أي جزء من أجزاء الطبيعة البشرية. ورأينا في عصرنا كيف أن النظم السياسية التي كانت أكثر تناقضاً مع الفطرة البشرية من غيرها سقطت وانهارت أسرع من غيرها.
ويقول العلماء إن لله عز وجل كتابان: كتاب مقروء وكتاب منظور، وهذان الكتابان هما القرآن الكريم والكون. ورغم أن القرآن والكون هما مصدران للتعرف على السنن والقوانين الإلهية، إلا أن التعرف على هذه السنن من خلال دراسة الكون ينتج علوماً نافعة ولكنها ليست متيقنة ولا عامة ولا مطردة، بعكس السنن التي يعلمنا إياها القرآن.
فالدراسات الاجتماعية مثلاً تحلل لنا ظواهر معينة بناء على دراسات إحصائية، ولعلها تستنتج قانوناً أو سنة أو علاقة مطردة بين ظاهرتين مثلاً كما تدل عليهما الإحصاءات، ولكن هذا الاطراد قد يكون مقصوراً على زمان معين قام فيه الباحثون بالدراسة، أو ظروف خاصة بهذا المجتمع وثقافته دون غيره، أو قد يحدث خطأ في تجميع البيانات أو تحليلها، إلى آخره، وليست بالضرورة سنة إلهية لازمة.
والدراسات الطبيعية والكونية كمثال آخر تفسر لنا ظواهر معينة بناء على ملاحظات معملية ومعادلات رياضية، ولعلها تستنتج قانوناً أو سنة أو علاقة مطردة بين معدلين أو قوتين مثلاً كما تدل عليهما المعادلات، ولكن هذا الاطراد قد يكون مقصوراً على زمان معين أو ظروف خاصة بالتجربة أو تقدير تقريبي للأرقام، وليست بالضرورة سنة إلهية لازمة.
أما السنن الإلهية التي نتعلمها من القرآن فهي مطردة ومنتظمة وثابتة، ولا تخضع لتغير ولا تبدل ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا)[1]، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)[2]، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا)[3]، بمعنى أن ما هو عادة وسنة وقانون إلهي لا يتغير، إلا أن يغيره الله سبحانه وتعالى بمعجزة خاصة بنبي في وقت معين.
وبالتالي فإذا تبين لنا في قضية سياسية معينة الارتباط بسنة إلهية معينة فإنه لا يصح شرعاً ولا عقلاً أن نضادّ هذه السنن أو نتحداها، بل إن الشريعة تقصد إلى مراعاة السنن والتوافق معها كما هو ظاهر باستقراء تفاصيلها.
 
الكون كله وحدة واحده
هناك سنة إلهية أصيلة يمكن أن نطلق عليها سنة الوحدة، بمعنى أن الكون كله وحدة واحدة مترابطة ومتصلة كما خلقها الله سبحانه وتعالى. ونجد في القرآن تعبير “كل شيء” يتكرر في مواضع كثيرة، منها مثلاً:(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)[4]، (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[5]، (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[6]، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [7].
وهذه السنة تعني عملياً أن هناك روابط وصلات واتصالات بين كل ما خلق الله سبحانه وتعالى، فالكون وحدة مترابطة لا نستطيع أن نحرك شيء في الكون دون أن يتأثر كل الكون، بشكل أو بآخر.
وبالتالي، فالسياسات والقرارات التي تتعامل مع قضية معينة يجب أن لا تكون منفصلة عن الواقع، وأن تعتبر سائر القضايا وسائر الصلات وسائر النظم المتعلقة بتلك القضية. ولذلك، فالتحليل السياسي “التجزيئي” الذي أشرنا إليه آنفاً لا ينفع لأنه يتعارض مع سنة الوحدة والتوحيد المطّردة، والفهم والتطبيق الشامل الكلّي يتّسق مع تلك السنن ويؤتي الثمرات المرجوة في الواقع بشكل أفضل لا محالة.
وسنة الوحدة تنطبق على المستوى الإنساني العام، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[8]، أي في بداية البشرية ثم اختلفوا وتفرقت بهم السبل فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولذلك أرسل الله سبحانه وتعالى النبيين مبشرين ومنذرين، لينذر الكفار ويبشر المؤمنين. ولكن الأصل أن الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، ويقول تعالى كذلك: (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ).[9]
وهذه السنة معناها عملياً أننا ينبغي أن نراعي المشتركات الإنسانية في التدابير السياسية والسياساتية، ذلك لأن الشعوب في هذا العالم رغم اختلاف ثقافاتهم يشتركون في مساحات كبيرة في أفكارهم وتصوّراتهم وتطلّعاتهم، ومراعاة هذا من الحكمة المطلوبة، والتعامل مع غير المسلمين على أنهم أخوة في الإنسانية وفي الفطرة البشرية محمود ومطلوب.

Views: 3

هل اعجبتك المقالة شاركنا رأيك