< >
القائمة إغلاق

لم يلد و لم يولد مناقشة مع شخص عاش مع الهيبز و أصبح ينكر كل شيء

صديقي رجل يحب الجدل و يهوى الكلام .. و هو يعتقد أننا – نحن المؤمنين السذج – نقتات بالأوهام و نضحك على أنفسنا بالجنة و الحور العين و تفوتنا لذات الدنيا و مفاتنها .. و صديقي بهذه المناسبة تخرج في فرنسا

و حصل على دكتوراه .. و عاش مع الهيبز و أصبح ينكر كل شيء . 
قال لي ساخراً : أنتم تقولون أن الله موجود .. و عمدة براهينكم هو قانون “السببية ” الذي ينص على أن لكل صنعة صانعاً .. و لكل خلق خالقاً .. و لكل وجود موجدا .. النسيج يدل على النسّاج .. و الرسم يدل على الرسّام .. و النقش يدل على النقّاش .. و الكون بهذا المنطق أبلغ دليل على الإله القدير الذي خلقه ..صدّقنا و آمنّا بهذا الخالق .. ألا يحق لنا بنفس المنطق أن نسأل .. و من خلق الخالق .. من خلق الله الذي تحدثوننا عنه .. ألا تقودنا نفس استدلالاتكم إلى هذا .. و تبعاً لنفس قانون السببية .. ما رأيكم في هذا المطب دام فضلكم ؟
و نحن نقول له : سؤالك فاسد .. و لا مطب و لا حاجة فأنت تسلّم بأن الله “خالق” ثم تقول مَن خلقه ؟! فتجعل منه خالقاً و مخلوقا ًفي نفس الجملة و هذا تناقض .. و الوجه الآخر لفساد السؤال أنك تتصور خضوع الخالق لقوانين مخلوقاته .. فالسببية قانوننا نحن أبناء الزمان و المكان . و الله الذي خلق الزمان و المكان هو بالضرورة فوق الزمان و المكان و لا يصح لنا أن نتصوره مقيداً بالزمان و المكان .. و لا بقوانين الزمان و المكان . و الله هو الذي خلق قانون السببية .. فلا يجوز أن نتصوره خاضعاً لقانون السببية الذي خلقه . و أنت بهذه السفسطة أشبه بالعرائس التي تتحرك بزمبلك .. و تتصور أن الإنسان الذي صنعها لا بد هو الآخر يتحرك بزمبلك .. فإذا قلنا لها بل هو يتحرك من تلقاء نفسه .. قالت : مستحيل أن يتحرك شيء من تلقاء نفسه .. إني أرى في عالمي كل شيء يتحرك بزمبلك . و أنت بالمثل لا تتصور أن الله موجود بذاته بدون موجد .. لمجرد أنك ترى كل شيء حولك في حاجة إلى موجد . و أنت كمن يظن أن الله محتاج إلى براشوت لينزل على البشر و محتاج إلى أتوبيس سريع ليصل إلى أنبيائه.. سبحانه و تعالى عن هذه الأوصاف علوّاً كبيراً .. و ” عمانويل كانت ” الفيلسوف الألماني في كتابه “نقد العقل الخالص” أدرك أن العقل لا يستطيع أن يحيط بكنه الأشياء و أنه مُهيّأ بطبيعته لإدراك الجزئيات و الظواهر فقط .. في حين أنه عاجز عن إدراك الماهيات المجردة مثل الوجود الإلهي .. و إنما عرفنا الله بالضمير و ليس بالعقل .. شوقنا إلى العدل كان دليلنا على وجود العادل .. كما أن ظمأنا إلى الماء هو دليلنا على وجود الماء .. أما أرسطو فقد استطرد في تسلسل الأسباب قائلاً : إن الكرسي من الخشب و الخشب من الشجرة .. و الشجرة من البذرة .. و البذرة من الزارع .. و اضطر إلى القول بأن هذا الاستطراد المتسلسل في الزمن اللانهائي لابد أن ينتهي بنا في البدء الأول إلى سبب في غير حاجة إلى سبب .. سبب أول أو محرك أول في غير حاجة إلى من يحركه .. خالق في غير حاجة إلى خالق .. و هو نفس ما نقوله عن الله .. أما ابن عربي فكان رده على هذا السؤال “سؤال مَنْ خلق الخالق”.. بأنه سؤال لا يرد إلا على عقل فاسد .. فالله هو الذي يبرهن على الوجود و لا يصح أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله.. تماماً كما نقول إن النور يبرهن على النهار .. و نعكس الآية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور ..يقول الله في حديث قدسي : ( أنا يُستدل بي .. أنا لا يُستدل عليّ ) .. فالله هو الدليل الذي لا يحتاج إلى دليل .. لأنه الله الحق الواضح بذاته .. و هو الحجة على كل شيء .. الله ظاهر في النظام والدقة والجمال والإحكام .. في ورقة الشجر .. في ريشة الطاووس .. في جناح الفراش .. في عطر الورد .. في صدح البلبل .. في ترابط النجوم و الكواكب.. في هذا القصيد السيمفوني الذي اسمه الكون .. لو قلنا إن كل هذا جاء مصادفة .. لكنا كمن يتصور أن إلقاء حروف مطبعة في الهواء يمكن أن يؤدي إلى تجمعها تلقائياً على شكل قصيدة شعر لشكسبير بدون شاعر و بدون مؤلف . و القرآن يغنينا عن هذه المجادلات بكلمات قليلة و بليغة فيقول بوضوح قاطع و دون تفلسف : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . الله الصمد . لم يلد و لم يولد . و لم يكن له كفواً أحد } سورة الإخلاص . 
و يسألنا صاحبنا ساخراً : و لماذا تقولون إن الله واحد ..؟ لماذا لا يكون الآلهة متعددين .. ؟ يتوزعون بينهم الاختصاصات ؟ و سوف نرد عليه بالمنطق الذي يعترف به .. بالعلم و ليس بالقرآن .. سوف نقول له إن الخالق واحد ، لأن الكون كله مبني من خامة واحدة و بخطة واحدة .. فمن الأيدروجين تألفت العناصر الاثنان و التسعون التي في جدول “مندليف” بنفس الطريقة .. “بالادماج” و إطلاق الطاقة الذرية التي تتأجج بها النجوم و تشتعل الشموس في فضاء الكون . 
كما أن الحياة كلها بنيت من مركبات الكربون “جميع صنوف الحياة تتفحم بالاحتراق ” و على مقتضى خطة تشريحية واحدة .. تشريح الضفدعة ، و الأرنب ، و الحمامة ، و التمساح ، و الزرافة ، و الحوت ، يكشف عن خطة تشريحية واحدة ، نفس الشرايين و الأوردة و غرفات القلب ، و نفس العظام ، كل عظمة لها نظيرتها .. الجناح في الحمامة هو الذراع في الضفدعة .. نفس العظام مع تحور طفيف .. و العنق في الزرافة على طوله نجد فيه نفس الفقرات السبع التي تجدها في عنق القنفذ .. و الجهاز العصبي هو هو في الجميع ، يتألف من مخ و حبل شوكي و أعصاب حس و أعصاب حركة .. و الجهاز الهضمي من معدة و اثني عشر ، و أمعاء دقيقة و أمعاء غليظة و الجهاز التناسلي نفس المبيض و الرحم و الخصية و قنواتها .. و الجهاز البولي الكلية و الحالب ، و حويصلة البول .. ثم الوحدة التشريحية في الجميع هي الخلية .. و هي في النبات كما في الحيوان كما في الإنسان ، بنفس المواصفات ، تتنفس و تتكاثر و تموت و تولد بنفس الطريقة .. فأية غرابة بعد هذا أن نقول إن الخالق واحد ؟ .. ألا تدل على ذلك وحدة الأساليب . و لماذا يتعدد الكامل .. ؟ و هل به نقص ليحتاج إلى من يكمله ؟ .. إنما يتعدد الناقصون .و لو تعدد الآلهة لاختلفوا ، ولذهب كل إله بما خلق ، و لفسدت السماوات و الأرض , و الله له الكبرياء و الجبروت و هذه صفات لا تحتمل الشركة ..
و يسخر صاحبنا من معنى الربوبية كما نفهمه .. و يقول أليس عجيباً ذلك الرب الذي يتدخل في كل صغيرة و كبيرة ، فيأخذ بناصية الدابة ، و يوحي إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً ، و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، و ما تخرج من ثمرات من أكمامها إلاّ أحصاها عدداً ، و ما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .. و إذا عثرت قدم في حفرة فهو الذي أعثرها.. و إذا سقطت ذبابة في طعام فهو الذي أسقطها .. و إذا تعطلت الحرارة في تليفون فهو الذي عطلها .. و إذا امتنع المطر فهو الذي منعه ، و إذا هطل فهو الذي أهطله .. ألا تشغلون إلهكم بالكثير التافه من الأمور بهذا الفهم .. و لا أفهم أيكون الرب في نظر السائل أجدر بالربوبية لو أنه أعفى نفسه من هذه المسئوليات و أخذ إجازة و أدار ظهره للكون الذي خلقه و تركه يأكل بعضه بعضاً ! هل الرب الجدير في نظره هو رب عاطل مغمى عليه لا يسمع و لا يرى و لا يستجيب و لا يعتني بمخلوقاته ؟ .. ثم من أين للسائل بالعلم بأن موضوعاً ما تافه لا يستحق تدخل الإله ، و موضوعاً آخر مهماً و خطير الشأن ؟ 
إن الذبابة التي تبدو تافهة في نظر السائل لا يهم في نظره أن تسقط في الطعام أو لا تسقط ، هذه الذبابة يمكن أن تغيّر التاريخ بسقوطها التافه ذلك .. فإنها يمكن أن تنقل الكوليرا إلى جيش و تكسب معركة لطرف آخر ، تتغير بعدها موازين التاريخ كله . ألم تقتل الإسكندر الأكبر بعوضة ؟! 
إن أتفه المقدمات ممكن أن تؤدي إلى أخطر النتائج .. و أخطر المقدمات ممكن أن تنتهي إلى لا شيء .. و عالم الغيب وحده هو الذي يعلم قيمة كل شيء . 
و هل تصور السائل نفسه وصيّاً على الله يحدد له اختصاصاته .. تقدّس و تنزّه ربنا عن هذا التصور الساذج .
إنما الإله الجدير بالألوهية هنا هو الإله الذي أحاط بكل شيء علماً .. لا يغرب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء .. الإله السميع المجيب ، المعتني بمخلوقاته .

Views: 0

هل اعجبتك المقالة شاركنا رأيك