الغضب .. الحقد .. الحسد .. الغل .. الشهوة .. كلها نار ..كلها تعتمل في النفس اعتمال النار و تأكل فيها كما تأكل النار في الحطب .و جهاد النفس هدفه محاصرة هذه النار و مغالبتها والتحكم فيها و تخليص القلب منها .
و من مات و في نفسه شهوة مات و للنار فيه نصيب …ففي الآخرة تنتهك الأسرار .. و تنكشف الأستار و تظهر الخبايا و تفتضح الخباياة تبدو النفوس على ما هي عليه في حقيقتها إن كانت نورا فنور و إن كانت نارا فنار .
فإن كانت نارا اتصلت بما يجانسها .. ألا ترى بقع الزيت الطافية في الماء تجتمع و تنادي بعضهاو تلتحم ببعضها .. كما تلتحم حبات الزئبق معا و تتلصق معا فكذلك النار حينما تطلع على الأفئدة فإنها تلابس الأفئدة النارية و تسرح فيها كما تسرح النار في الهشيم .
و مهلة العمر هي الفرصة الوحيدة لمعالجة هذه النار الداخلية و إخمادها و ذلك بالصلاة و الذكر و جهاد النفس و معاناة الخطأ و الأكتواء بعواقبه و اكتساب العبرة و الخبرة و الخروج بنور الحكمة من نار الألم .
فمن عاش عمره المديد و لم يزدد حكمة و لم يكتسب خبرة و لم يجاهد نقصا و خرج من الدنيا بلا توبة و هو ما زال مغلوبا بشهواته منقادا لناره فهو إلى النار ذاهب .. فهو والنار كلاهما من معدن واحد و هو في النار منذ الأزل و هو فيها دنيا و آخرة بحكم المشاكلة والمجانسة والنار حقيقته .. و هو بضعة منها .. إنما أطفأ الله ناره لبرهة قصيرة من العمر حينما خلقه و ألقى عليه الماء والتراب و سواه طينا .. فلما عاد ترابا .. و خلع الله ثوبه الطيني عادت حقيقته النارية و ظهر البركان الذي كان مستورا خلف الضلوع.
و هذا حال أهل النار الذين هم أهلها ” وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ” (37-فاطر)
و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون .. فإنهم نار بحكم حقائقهم .. و لو أعاد الله خلقهم ألف مرة .
ولا يصح أن يلتبس الأمر على القارئ فيشتبه عليه أن الله جبرهم على الشر بحكم ما أودع فيهم من حقائق الحسد والحقد .. سبحانه و تعالى عن ذلك علوا كبيرا فإن الله يذكرهم في قرآنه فينسب حسدهم إلى أنفسهم فيقول ” حسدا من عند أنفسهم “
فالله يخلق القلب محايدا صالحا لأن الله يحتوي نية صاحبه إن كانت خيرا فخيرا و إن كانت شرا فشر.. و الله جعل النية حرة والمبادرة القلبية حرة تماما حتى الشيطان لا يستطيع أن يدخل القلب إلا بإذن صاحبه .. لم يجعل الله للشيطان سلطانا قاهرا على القلوب فقال له : ” عبادي ليس لك عليهم سلطان “
ولهذا لا يستطيع الشيطان أن يستهوي إلا الشياطين أمثاله الذين ستضيفونه مختارين في قلوبهم و يفتحون له آذانهم .
و حقائق ثابت للنفوس منذ الأزل .. و هي أسرارها المعلومة لله علما قديما لم يجبر الله نفسا على شر..
و كل نفس هي التي أسرت و كتمت و أخفت في طويتها هذه الشرور أو الخيرات .
“والله مخرج ما كنتم تكتمون ” (72- البقرة )
لم يقل “خالق ما كنتم تكتمون ” .. بل قال مخرج ما كنتم تكتمون فهو ليس مسئولا عن حسد الحاسد و عن حقد الحاقد .. و إنما هو مخرج و مظهر هذه الأشياء فقط بما يجريه على الدنيا من اختيار و ابتلاء و تقليب في الأحوال .. و لكنه لم يخلقها في نفوس أصحابها .. و الأمر خطير ..
و لو أدرك كل منا أنه على شفا حفرة من النار الفعليه و أن ناره فيه أقرب إليه من أنفاسه لخر على ركبته ساجدا باكيا صارخا متوسلا .
و لأصبح من أهل الخوف و الرجاء الذين يموتون كل يوم قبل أن يموتوا .
فإن الله الذي خلق العالم بدقة مذهلة و إحكام مدهش و الذي خلق الإلكترون المتناهي في الصغر مدارا لا يستطيع أن يتجاوزه .. فإذا اقتضى الأمر أن ينتقل من مدار إلى مدار لا يستطيع أن يتجاوزه .. فإذا اقتضى الأمر أن ينتقل من مدار إلى مدار فإنه لا يستطيع أ يقفز إلى الخارج أو إلى الداخل .. إلا إذا أعطى أو أخذ شحنة مساوية لحركته .
الخالق الذي قدر هذا الضبط والربط في حركة إلكترون منتهاه في الصغر لن يستطيع أن يفلت منه مجرم و لن يستطيع أن يمكر به ماكر و هو الذي وصف نفسه بأنه خير الماكرين .. و بأنه خالق كل شئ .. بيده مقاليد كل شئ .. العزيز الجبار المهيمن الذي ليس كمثله شئ .. السميع اللطيف الخبير الذي لا تأخذه سنة و لا نوم .. الذي له الشفاعة جميعا ..
” و كم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لم يشاء و يرضى ” (26- النجم)
“ما من شفيع إلا بعد إذنه “( 3- يونس)
” ما لكم من دونه من ولى و لا شفيع ” (4- السجدة )
ذلكم الله فطوبى لمن أدركه الخوف..
طوبى للذاكرين الموت .. الباكين في ساعات الوحدة .. المشفقين من يوم اللقاء ..
الذين رأوا النار في أنفسهم قبل أن يروها رأي العين ..
الذين استشفوا الحقائق و استبصروا الغيب .. و لمسوا الشواهد ..
و أدركوا الآيات و أيقنوا قبل زمان الإيقان .
أهل التسليم و الخضوع ..
Views: 40