القصة تقول انه يحكى أن هناك شيخاً (يذكر أن أسمه العود السعيدي) كان عقيد قوم وكبر فالسن، وفي يوم من الايام رأى الفتيات يسبحن في الغدير، فأعجبته احداهن وقال لأولاده اريد ان تزوجونني فلانة هذه!! والح عليهم، واستغرب الأبناء هذا الطلب خاصة وأن أباهم شيخ طاعن في السن، غير أن إصرار أبيهم، وعدم رغبتهم في إغضابه جعلهم ينزلون عند رغبته.
فقالوا للفتاة تزوجيه ونعطي اهلك مهراً طيباً، فوافقت ووافق اهلها، فخطبوها إليه، وبعد أن تهيأت وزفُّوها إلى الشيخ، وضع اولاده في يديها حناء وقالوا اقبضي عليه الى الصباح خوفاَ منها أن تقتل اباهم، ودخل الشيخ على عروسه الشابّة وقضى ليلته عندها، ولكنه لم يخرج في الصباح، وعندما استبطأه أبناؤه ذهبوا إلى خيمته فوجدوه على فراشه قد مات والحناء في يديها، فسألوها عن ليلتها فاخبرتهم انها لم يحدث بينهما شيء وأنه مات لقضاء ربه، فجهزوه ودفنوه.
وعادت العروس إلى أهلها، وأبلغتهم بتمكن الشيخ منها، وأنّها قد تكون قد اشتملت منه، لكنهم لمْ يعيروا لها إهتماماً، اعتقادا منهم أن الشيخ طاعن في السن لا رجاء منه.
ثم زوجوها لشخص آخر بعد فترة قصيرة، فحملت وانجبت ولداَ كَبِر وترعرع في كنف والدته وأخواله، وبعد عدة سنوات وبعد أن إشتد ساعده طلع الولد على صورة الشيخ (العود السعيدي)، فقال أبناء الشيخ السعيدي : لربما كان هذا الولد اخينا لانه مثل ابينا طبق الاصل!!
وكان الولد يساعد أباه في أعماله ويعينه في شؤونه، غير أن الأب كان لا يمنحه شعوراً بالمحبة، بعكس إخوانه الآخرين، وفي أحد الأيام ذهب الوالد ليعمل في أرضه ومعه ابنه هذا، ولسبب ما ثار الرجل وضرب الولد ضرباً مبرحاً فهرب من بين يديه، وظلَّ الصبيّ يعدو حتى وصل قدراً إلى خيمة أبناء السعيدي، فاستجار بهم من ظلم أبيه.
وقال لهم : أنقذوني من أبي فقد ضربني حتى كاد يقتلني!
فاستضافوه وهَدَّأَوا من روعه، وبعد أن استراح حدثهم عن معاملة أبيه القاسية بعكس إخوانه.
فسأله كبيرهم : ومن هو أبوك ؟
فقال : أنا ابن فلان.
وسأله أيضاً : ومن هي أمك ؟
فقال : أمي فلانة بنت فلان.
فقال كبيرهم : أنت لسـت ابناً لهذا الرجـل، بل أنت أخي أنا !!
فقال له الصبي : وكيف أصبحت أخاً لك وأنا لم أشاهدك في حياتي قبل هذه المرة؟
فقال الرجل : لا تستعجل فسأخبرك بذلك في حينه.
وبعد ساعة من الزمن جاء أبو الصبي يريد أخذ ابنه من عندهم لأنه كان يتتبعه، ولكن الأخ الأكبر قال له : هذا ليس ابنك أيها الرجل!! بل هو أخي.
فقال الرجل : كيف أصبح أخوك خلال هذه الساعة، إنه ابني ولكن يبدو أنه جرى لعقـلك شـيء!
فقال الأخ الأكبر : لن أتركه لك إلا بعد أن نتقاضى ونحتكم عند أحد الشيـوخ، فإن كان ابنك فخذه، وإن كان أخي سآخذه أنا، ولنلتقي غداً في بيت الشيخ الحكيم من قبيلة بني فهم، فهل ترضى به حَكَمَاً بيننا ؟
فقال الرجل : ونعم الشيخ هو، نعم رضيت به حكماً.
واتفقوا أن يجتمعوا عنده في اليوم التالي ليفصل بينهم في هذا الأمر، وفي اليوم التالي ذهب الأخوة ومعهم الولد إلى بيت الشيخ الحكيم، ثم جاء غريمهم أبو الصبي، فوصلوا ساعة العصر، فرحب بهم الحكيم واستقبلهم استقبالاً حسناً، ثم شرح كل واحد منهم حجته للشيخ.
فقال لهم الحكيم : لن أحكم بينكم قبل أن أقدّم لكم واجب الضيافة أولاً، وأريد من الصبي أن يأتينا بخروف من بين غنمي نطهوه للعشاء من بين الرعية التي خلف هذا الجبل، بشرط أن لا تراه ابنتي الراعية وأن لا تحس به.
فقال الصبي : صفه لي يا عم وأنا آتيك به، فوصف له الحكيم الخروف وما فيه من علامات بينة، فذهب الصبي وغافل الفتاة الراعية ثم حمل الخروف وعاد به بعد ساعة، وأحضره إلى الشيخ الذي ذبحه وأعدّ منه عشاءً لهم.
وفي ساعات المساء وبعد أن تناول المختصمون عشاءهم عند الحكيم عادت الفتاة الراعية ومعها أغنامها إلى البيت وهي تندب حظها لضياع الخروف، فسألها الحكيم الفهمي على مسمع من ضيوفه : ما بالك يا بنتي ؟
فقالت : لقد ضاع مني اليوم خروف يا أبي.
فقال لها : وكيف ضاع منك ؟ هل أكله الذئب ؟
فقالت : لا بل سُرِق.
فقال لها : وهل رأيت الذي سرقه ؟
فقالت : لا ولكنني عرفته ( وفي رواية اخرى يروى أنها قالت : لا ولكني قصيته).
فقال لها : كيف عرفتِه ولم تبصره عيناكِ ؟
فقالت : وجدت أثر أقدامه فعرفته من أثره، فهو صبي أمّه شابّة وأبوه شيـخ هَـرِم، أو في رواية اخرى يروى انها قالت : أنه البتر ولد العود الهتر من البنت البكر.
فقال لها أبوها : وكيف استدللتي على ذلك ؟
فقالت : إن أثره صغير كأَثَرِ صبي لم يبلغ بعد.
فقال أبوها : حسناً ولكن كيف عرفت أنه ابن شيخ هرم ؟
فقالت : عرفته من أثره أيضاً، فوجدت خطواته مرة تكون طويلة ومتباعدة ومرةً تكون قصيرة ومتقاربة، فعرفت إنه عندما كان يأتيه العزم والقوة من ناحية أمه، فكان يعدو فتبعد خطواته عن بعضها البعض، وعندما تأتيه القوة من عند أبيه فكـان يتعب فتقصر خطواته، فعرفت أن أمه شابّة وان أباه شيخ هرم.
فقال لها الشيخ : اذهبي الآن يا ابنتي وسنبحث عن الخروف فيما بعد.
ثم نظر إلى ضيوفه وقال لهم : هل سمعتم ما قالته الفتاة ؟
فقالوا : نعم سمعنا.
فقال الشيخ : وبذلك تكون قد حُلّت القضية، فأما أنت أيها الرجل فالصبي ليس ابناً لك، وأما أنت أيها الصبي فالحق بإخوانك وعد إلى أهلك، وبهذا أكون قد حكمت بينكم.
وبذلك تكون فراسة الفتاة البدوية العربية حكماً فطرياً أنقذ الصبي من ظلم أبيه المزعـوم، وأعاده إلى حضن إخوانه الذين فرحوا كثيراً بعودته إليهم
Views: 316