في شهر ذي القعدة سنة 6 هـ الموافق 628 م، أمر محمد أتباعه باتخاذ الاستعدادات لأداء مناسك العمرة في مكة، بعد أن رأى في منامه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وطافوا واعتمروا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فخرج منها يوم الإثنين غرّة ذي القعدة سنة 6 هـ، في 1400 أو 1500، ولم يخرج بسلاح، إلا سلاح المسافر (السيوف في القُرُب)،
وساق معه الهدي 70 بدنة. ولمّا علمت قريش بذلك، قررت منعه عن الكعبة، فأرسلوا 200 فارس بقيادة خالد بن الوليد للطريق الرئيسي إلى مكة. لكنَّ محمدًا اتخذ طريقًا أكثر صعوبة لتفادي مواجهتهم، حتى وصل إلى الحديبية على بعد 9 أميال من مكة، فجاءه نفر من خزاعة ناصحين له، فقال لهم محمد «إنّا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلّوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا،
وإن هم أبَوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذنّ الله أمره». فعادوا إلى قريش موصلين تلك الرسالة، فبعثت قريش الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وحلفاء قريش فلما رآه الرسول محمد قال: «إن هذا من قومٍ يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رأى الحليس بن علقمة الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى الرسولِ محمدٍ إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: “اجلس، فإنَّما أنت أعرابيٌّ لا علمَ لك”،
فغضب عند ذلك الحليس وقال: “يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده، لَتَخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد”، فقالوا له: “مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به”.
ثم بعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي، ليفاوض المسلمين، فأعاد محمد عليه نفس العرض، فعاد لمكة قائلاً:
محمد والله ما رأيتُ ملكًا يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله ما تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها
ثم أرسل محمد عثمان بن عفان إلى قريش ليفاوضهم، فتأخر في مكة حتى سرت إشاعة أنه قد قُتل. فقرر محمد أخذ البيعة من المسلمين على أن لا يفرّوا،
فيما عرف ببيعة الرضوان، فلم يتخلّف عن هذه البيعة أحد إلا جد بن قيس، ونزلت آيات من القرآن @لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا @ خلال هذا وصلت أنباء عن سلامة عثمان، وأرسلت قريش سهيل بن عمرو لتوقيع اتفاق مصالحة عرف بصلح الحديبية،
ونصّت بنوده على عدم أداء المسلمين للعمرة ذلك العام على أن يعودوا لأدائها العام التالي، كما نصّت على أن يرد المسلمون أي شخص يذهب إليهم من مكة بدون إذن، في حين لا ترد قريش من يذهب إليهم من المدينة.
واتفقوا أن تسري هذه المعاهدة لمدة 10 سنوات، وبإمكان أي قبيلة أخرى الدخول في حلف أحد الطرفين لتسري عليهم المعاهدة. فلما فرغوا من الكتاب انطلق سهيل وأصحابه، عمّ المسلمين الحزن الشديد بسبب بنود الصلح، وعدم تمكنهم من أداء العمرة، فقال لهم محمد «قوموا فانحروا» ثلاثًا فما قام منهم أحد، ثم قام محمد ولم يكلّم أحدًا منهم حتى نحر بُدْنَه،
ودعا خراش بن أمية فحلق له رأسه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا. وأقاموا بالحديبية بضعة عشر يومًا ويقال عشرين يومًا، ثم انصرفوا.
كان من نتائج الصلح أن بعث محمد رسائل إلى العديد من الملوك في العالم، داعيًا إياهم إلى اعتناق الإسلام، واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك في شهر ذي الحجة سنة 6 هـ، وقيل بل في بداية شهر المحرم سنة 7 هـ قبل غزوة خيبر بأيام. فكان أول رسول أرسله محمد هو عمرو بن أمية الضمري الكناني إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما وصله الكتاب، وضعه على عينيه ونزل من سريره فجلس على الأرض تواضعًا، فأسلم على يد جعفر بن أبي طالب وقال
«لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته».
وأرسل دحية الكلبي إلى قيصر (هرقل) ملك الروم، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى ملك فارس، فلما وصله الكتاب مزّقه، فقال في ذلك محمد «اللهم مزّق مُلكَه». وأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك مصر، فلما وصله الكتاب بعث لمحمد كهدية جاريتين هما مارية القبطية (والتي أخذها لنفسه فولدت له إبراهيم)،
وأختها سيرين بنت شمعون (والتي أعطاها لحسان بن ثابت) وبغلة (دُلدُل)، ولكن المقوقس لم يُسلِم. وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأرسل سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة. وبعث آخرين إلى ملوك عدة غيرهم.
Views: 15