,أنا من الخارج لي حدود لي سقف ينتهي عنده جسدي .. و لكني من الداخل بلا سقف … و لا قاع … أنا .. كلمة ظريفة .. لا يوجد أظرف منها في الدنيا .. إنها أغنية ..
إنها تدخل في أي جملة فتجعلها جملة مفيدة مهمة ..
و تدخل في أي موضوع فتجعله موضوع الساعة .. لأنه أصبح موضوعي أنا
.. و فلوسي أنا .. و حبيبي أنا .. و روحي أنا .. و روحي أنا .. و قلبي أنا ؟
و لكن أنا .. ؟ .. من أنا .. ؟
هل حاول أحدكم أن يسأل نفسه هذا السؤال ..
من أنا ؟ ..
أنا فلان .. فلان أيه .. فلان ابن فلان .. يعني أيه .. مجرد ألفاظ .. مجرد رموز أو إشارات تدل على حقيقتي .. طيب و أيه هي حقيقتي ؟ ..
وهنا يبدأ اللغز .
ما هي حقيقتي ؟ ..
إني أحاول أن أمسك بوجودي وأكتشفه و أفحصه كما أفحص هذه المحبرة فأجد أنه لا وجود بلا قاع .. وجود مفتوح من الداخل على إمكانيات لا نهاية لها .. و ألقي بحصاة في هذا البئر الداخلي فلا أسمع لها صوتاً .. لأنها تهوي و تهوي إلى أعماق بلا آخر ..
أنا من الخارج لي حدود .. ينتهي طولي عند 170 سنتيمتر ..
لي سقف ينتهي جسدي عنده .. و لكني من الداخل بلا سقف و بلا قعر .. و إنما أعماق تؤدي إلى أعماق .. و أفكار و صور و أحاسيس و رغبات لا تنتهي أبداً إلا لتبدأ من جديد كأنها متصلة بينبوع لا نهائي .. و هي أعماق في تغير دائم و تبدل دائم .. بعضها يطفو على السطح فيكون شخصيتي و بعضها ينتظر دوره في الظلام ..
و أنا في الخارج أتبدل أيضاً .. الواقع يكشط هذه القشرة التي تطفو خارجي فتطفو قشرة أخرى من عقلي الباطن محلها ..
و كلما أمسكت بحالة من حالاتي و قلت هذا هو أنا .. ما تلبث هذه الحالة أن تفلت من أصابعي و تحل محلها حالة أخرى .. هي أنا .. أيضاً ..
شيء محير !!..
و أنظر حولي في العالم .. فأجد أني أعوم في هذا العالم كما تعوم البطة في الماء .. تجدف فيه بريشها ولا تبتل و إنما ينزلق من عليها الماء كأنه من عنصر آخر غريب عنها ..
أنا متصل بالعالم منفصل عنه في نفس الوقت ..
إنه يدخل في تكويني بحكم المسكن و المأكل و المشرب و الاتصال بالآخرين .. و لكنه غير ملتصق بي .. إنه يذكي شعوري و يثير اهتمامي فقط .. و بمقدار اهتمامي أظل على علاقة به فإذا انتهى اهتمامي نفضته تماماً كما تنفض البطة الماء من ريشها حينما تصل إلى الشاطئ ..
إني أحتضن العالم باختياري و أخلع عليه اهتمامي و شخصيتي و أتبناه و أظل مصاحباً له طالما هو .. أنا .. فإذا انتهت هذه العلاقة الأنانية .. عدت إلى نفسي ..
و لكني لا أنجو مع هذا من الابتذال .. و التردي في هوة الناس ..
العالم يبتذلني أحياناً فأذوب فيه بعض الوقت .. أفعل ما يطلبه مني رئيس تحرير المجلة التي أعمل بها و أؤدي ما يطلبه مني مدير المستشفى الذي أشتغل فيه طبيباً ..
و أخضع لروتين العادة و العرف و المجاملات و أضيع نفسي في الثرثرة و أختبئ وراء المشاكل اليومية .. و أتستر خلف الناس .. و أقول و أنا مالي .. هم عاوزين مني كده .. الدنيا كلها بتعمل كده ..
و في هذه الحالات تضيع مني نفسي .. تضيع مني .. أنا .. و أصبح موضوعاً من الموضوعات مثل الكرسي و الشجرة و الكتاب .. و أفقد الشيء البكر الذي يميزني عن كل شيء .. و يجعل مني نسيجاً وحده .. يجعل مني .. أنا .. فلان الفلاني ..
هذه أوقات لا أحس بها .. و إنما تبدو ممسوحة و مشطوبة من حياتي .. تبدو فترات موت ..
حريتي تعذبني .. لأني حينما أختار .. أتقيد باختياري .. و تتحول حريتي إلى عبودية و مسؤولية .. و هي مسؤولية لا ينفع فيها إعفاء لأنها مسؤولية أمام نفسي .. أما الاختيار الذي اخترته أنا ..
و ليس أمامي سبيل غير أن اختار .. لا بد أن أختار في كل لحظة .. فإذا أضربت عن الاختيار .. كان إضرابي نوعاً من الاختيار .. على أن أدفع ثمناً فوراً ..
و حبي يعذبني لأني أريد أن أمتلك محبوبتي و أذيبها في داخلي و أشرب شخصيتها و روحها و جسدها .. أريد أن أحولها إلى .. أنا .. و هذا مستحيل لأنها هي الأخرى لها .. أنا .. وذات حرة مثلي ..
إن كل ما نستطيعه هو أن نتعانق و تتلامس شفاهنا .. و تتلامس حقائقنا و أسرارنا في لحظات مضيئة .. ثم نمضي إلى حالنا .. كل واحد مغلق على سره .
إن كل ما نملكه هو أن نفتح نوافذنا على الخارج , و لكننا لا نستطيع أن ننقل عفشنا .. و نسكن بيتاً جديداً .
إن روحنا سر .. و ذواتنا قدس الأقداس ..
إن الله يضع كل جنده على باب ذاتنا كما يقول طاغور .. و لا يسمح لأحد منهم بالدخول فيها .. لأنها حرم .. حرمها على الكل .. و خلقها حرة كالطائر الغرد ..
* * *
ماذا هناك .. ماذا وراء الباب ..
ماذا بداخلي ..
إرادة . إرادة لا نهائية لا حد لها إلا نفسها .. إرادة حرة خالقة مبدعة .. تنبثق في بداءة و فطرة .. أحسها و لا أعرفها أكابدها و لا أفهمها .. لأنها تفر مني كلما حاولت فهمها كما يفر النوم من عيني كلما حاولت أن أتعمقه و أحلله .. و ربما كان السبب أنها أصيلة .. أكثر أصالة من العقل و التفكير و لا يمكن أن تكون موضوعاً للعقل و التفكير .. بل العكس هو المقبول .. أن يكون العقل موضوعها و خادمها .. و سبيلها إلى بلوغ أهدافها ..
أنا أريد .. و العقل يبرر لي ما أريد .. و ليس العكس أبداً
إن كل شيء خاضع للإرادة .. ثانوي بالنسبة لها ..
في لحظات إبداعي و خلقي .. في اللحظات التي أحس فيها أني أخلق نفسي و أخلق الأفكار و القيم و أكتشف العالم و أصنع المعقولات أحس أني أدفع العالم كله أمامي .. أدفعه كالعربة ..
و في اللحظات التي أموت فيها و أسقط في هوة العادة و التكرار و التقليد و المجاملات و الروتين .. و تضيع إرادتي من يدي .. أحس بأن العالم كله يدفعني أمامه كالعربة ..
أحس أن إرادة حصان في الطريق يمكنها أن تعدل في طريقي و تغير سكّتي ..
أحس بأن عين جاري تجعلني أنكمش في ثيابي كأنها عين الله ..
لا شيء في الدنيا أكبر من الإرادة ..
الظروف المالية .. و البيئة و الوراثة .. لا تلغي الإرادة و لا تمحو الحرية أبداً .. و لكنها تؤثر فيها .. تؤثر في الكيفية التي تعلن بها عن نفسها ..
أنا و الظروف نتصارع في لحظة الفعل فقط .. و لكن كلاً منا له وجوده البكر .
أنا حر و أرادتي حقيقة .. تماماً كما أن الظروف موجودة و حقيقية .
و لكن ما الإرادة ؟..
لا توجد كلمة تصفها أو تشرحها .. لأنها أكبر من كل الكلمات و لأنها تحتوي على كل الكلمات و تتجاوزها .. فكل وصف يبدو حيالها ناقصاً .. إنها كالشوق لا يوصف و إنما يكابد ..
إنها تنطبق عليها كلمة المتصوف الصالح أبو البركات البغدادي : أظهر من كل ظاهر و أخفى من كل خفي ..
إن أحسن طريق لمعرفتها هي أن تباشرها .. فهي المفتاح السحري الذي تفتح به الكون كله ..
و لكن هناك أسئلة تتوارد على خاطرنا ..
هل الإرادة موجودة في الزمان ..
هل هي تنبض مثل القلب ..
هل تنمو مثل الجسد ..
هل تتعاقب مثل اللحظات .. و تنقضي مثل الحالات النفسية .
هل تسري مثل الضوء و الكهرباء و تنتقل كما تنتقل الحرارة ..
و هي أسئلة تفتح علينا الباب على مشكلة أخرى هي .. الزمان ..
ما هو الزمان ؟..
هل هو حركة عقرب الثواني و الدقائق و الساعات ؟..
هل هو دقات ساعة الجامعة ؟
هل هو الأرقام العامة التي تنشرها مصلحة الأرصاد عن توقيت الأيام و الليالي و ساعات الظهر و المغرب و العشاء ..
أم هو زمن آخر خاص يعيشه كل واحد منا في نفسه و يضبط عليه وجوده ..
إننا بهذه الأسئلة نبلغ المنطقة التي يكثر فيها الضباب و تصعب الرؤية ..
إنها تحملنا إلى تحت ..
إنها تنزل بنا من الأوراق إلى الساق إلى الجذر .. إلى ما تحت الخشب و اللحاء .. إلى العصارة التي تصعد في نباتنا فتنبعث فيه الحياة ..
إننا ننفض يدنا من تشريح الأيدي و الأرجل و نبدأ في بحث الحركة نفسها .. و نكف عن قياس قوة العضلات لنبحث في الإرادة ذاتها .. لأننا في غرفة الموتور حيث أنبوبة الاحتراق التي تبعث كل الطاقة ..
و هنا تتصادم الأفكار و النظريات و المذاهب في الظلام .
Views: 0