خرج عمر بن الخطاب للحج وعمره ٦٣ عاما ، ربما شحب لونه بسبب عام الرمادة ، لكن قوته الجسدية بقيت كما هي ، كان يدخل في مباريات قوه مع عبدالله بن عباس الذي كان في العشرين من عمره ، يقوم كل منها بغطس رأس الآخر في المياه ، لمعرفه أيهما أطول نفسا وقدرة على الغطس في الماء .
يقول ابن عباس : فأخرج من الماء بينما يغطس رأس عمر فترة أطول .
كانت الحجة الأخيرة لعمر ، فوقف على عرفة ووقف الناس حوله ، وسمعوه يدعو بهذا الدعاء
” يارب كبرت سني وضعف جسدي وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مفرط في حق المسلمين ” ويموت عمر بعد الحج بخمسة عشر يوما فقط ، رجع عمر من الحج إلى المدينة فرأى رؤيا تقول أن ديكا ينقره ، فجمع الناس للصلاة وقال يا أيها الناس .. رأيت رؤيا أراها حقا ، رأيت ديكا ينقرني بنقرتين وما أراها إلا وفاتي أو استشهادي ، وأرى أن قاتلي أعجمي وليس عربيا ، ثم أخذ يدعو ” اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وموتة في بلد رسولك ” ثم دخل على ابنته حفصة ، فقالت له كيف تموت في المدينة حصن المسلمين ؟
فقال لها : إذا شاء الله فسيأتيني بها ، وكان يقول : اللهم أشكو إليك قوة الفجرة وضعف الثقات . كان قلقا على الأمة قبل أن يغادرها ، وكان يقول للمسلمين : من يدلني على رجل أستعمله ؟ قالو : كلنا ثقات يا أمير المؤمنين ، فيقول أبحث عن رجل إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم وإذا كان أميرهم . لم يشعروا أنه أميرهم .
هواجس الفتنة
ظل هكذا حتى قبيل وفاته بعدة أيام فسأل :أين حذيفة بن اليمان ” كاتم سر رسول الله ” فجاؤوا به فقالوا له : أقسمت عليك يا حذيفة أسماني رسول الله في المنافقين ؟ فقال يا أمير المؤمنين . قلت لك لم يسمك في المنافقين ؟ فقال الحمد لله ، اصدقني يا حذيفة . ثم نظر إليه وقال : يا حذيفة حدثني عن الفتنة فقال حذيفة فتنة الرجل في بيته وفتنة الرجل في ماله وفي ولده ، تكفيرها الصلاة والزكاة والصدقة . فقال عمر ليس عن هذا أسالك ولكن أسالك عن الفتنة التي تموج بالأمة .. فقال حذيفة : ومالك ولهذه الفتنة يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها بابا مسدودا طالما أنت حي . فقال عمر : يا حذفة أيفتح الباب أم يكسر ؟ قال بل يكسر . فقال إذا لا يعود إلى مكانه . فقال نعم يا أمير المؤمنين ، فقام عمر وهو يبكي : فقال الناس وما الباب ؟ قال : الباب هو عمر ، فإذا مات عمر فتحت أبواب الفتن .
ما قبل اغتياله
بدأت قصة وفاة عمر بأن رجلا اسمه المغيرة بن شعبة – وكان من الصحابة العظام – طلب من عمر استثناء شاب يعمل صانعا ماهرا للحدادة والنقاشة من قرار لعمر بعدم إقامة السبايا الذين تعدوا سن الحلم في المدينة ” يقصد السبايا غير المسلمين ” فأراد عمر أن يجامل المغيرة فقال : ليبق الشاب في المدينة .
وكان هذا الشاب مجوسيا واسمه فيروز وكنيته ” أبو لؤلؤة المجوسي ” وكان المغيرة بن شعبة يتقاضى من عبده فيروز مائة درهم شهريا مقابل السماح له بالعمل لدى الآخرين في المدينة .
ذهب أبو لؤلؤة المجوسي يشكو سيده لدى عمر بن الخطاب لإكراهه على دفع هذا المبلغ شهريا . وكانت هذه أول مقابلة بين عمر وقاتله . فقال له عمر : هذا المبلغ معقول إذا قورن بما تكسب من المال فاتق الله في سيدك . وحين التقى عمر بالمغيرة أو صاه أن يخفف العبء على عبده وأن يقلل المال الذي يتقاضاه من غلامه ، ولم يعرف أبو لؤلؤة المجوسي بذلك ، فكان يمشي في المدينة ويقول عمر يعدل مع كل الناس إلا أنا . كانت هذه الأقاويل ستارة لمؤامرة تحاك ضد عمر .. أطرافها أربعة ـ اثنان من المجوس ، ويهودي ، إضافة إلى أبي لؤلؤة المجوسي . اتفق الأربعة على الخلاص من عمر . رآهم عبد الرحمن بن أبي بكر ، يجتمعون وقد سقط من بين أيديهم خنجر مدبب من طرفيه ، فلم يفطن عبد الرحمن إلى سبب اجتماعهم إلى أن اعتدى أبو لؤلؤة المجوسي على حياة عمر .
وذات يوم كان عمر يمشي وسط مجموعة من الصحابة ، فمر به أبو لؤلؤة المجوسي ، فقال له عمر مداعبا : سمعت أنك تستطيع أن تصنع رحى يتحدث بها الناس . ظن الناس أنه سيخترع شيئا مثيرا ، أما عمر فنظر إليهم وقال : أسمعتم ..إنه يتوعدني ، إنه يريد قتلي . فقالوا إذا نقتله . قال أأقتل إنسانا بالظن ؟ لاوالله أألقى الله وفي رقبتي دم بالظن ؟ والله لا أفعلها .. قالوا غدا ننفيه . قال أأظلم إنسانا أخرجه من أرض هو فيها لظني أنه قاتلي ؟ .. لو كان الله يريد ذلك فإن أمر الله كان قدرا مقدورا
لحظة الغدر
وفي يوم ٢٣ من ذي الحجة من العام الهجري ، وعند صلاة الفجر في المسجد النبوي ، كان عمر يقف في روضة النبي وفي محرابه إماما للمسلمين .
يقول عمرو بن ميمون – أحد التابعين – عما حدث كنت أقف في الصف الثاني للمصلين وراء عبد الله بن عباس فكبر عمر لصلاة الفجر وقبل أن يقرأ الفاتحة خرج عليه ( العلج ) أي الكافر الأعجمي الضخم وطعنه بالخنجر ست طعنات في أنحاء متفرقة من جسده ، فصرخ عمر قتلني ، طعنني ، فاتجه الصحابة نحوه . أخذ القاتل يطعن الصحابة أصاب ١٣ صحابيا .. مات منهم تسعة فألقى عبد الرحمن بن عوف بعباءته على رأس القاتل وقام يلفها حول رقبته فذبح القاتل نفسه بالخنجر حتى لا يمسك به الصحابة فسأل عمر أين ابن عوف ؟ يا بن عوف صلّ بالمسلمين ، أدرك المسلمين ألا يخرجوا من الصلاة . فصلى بهم ركعتين الأولى قرأ فيها إنا أعطيناك الكوثر ، والثانية إذا جاء نصر الله والفتح وتعجل بالصلاة ، ثم سأل عمر أين عبد الله بن عمر ؟ فجاءه عبد الله ليسنده ، جاؤوا بوسادة يضعون رأسه عليها . قال .لا ضعوا خدي على التراب لعل رب عمر يرحمه . ثم قال : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي . ثم قال يابن عمر ، إن أنا مت فأغمض عيني واقتصد في كفني ، فإنني أن قدمت إلى ربي وهو عني راضٍ فسيبدلني كفنا خيرا من كفني ، وإن قدمت على ربي وهو عليّ غاضب فسينزعه مني نزعا .
الصلاة .. الصلاة
حمله الناس إلى بيته فأغشي عليه ساعات طويلة ، وظنوه مات .. فدخل عبد الله بن عباس عليه وقال أنا أدري كيف يفيق عمر بن الخطاب أعلنوا له أن موعد الصلاة حل ..
يفيق عمر فوقفوا أمامه وقالوا الصلاة يا أمير المؤمنين فانتبه وقال أصلى بالناس ؟ فقالوا نعم : قال فوضئوني لأصلي أنا أيضا فقام وتوضأ وصلى ثم دخل عليه الطبيب فقال ائتوني بإناء لبن ، وراح يسقيه ، فكان اللبن يخرج من جراحه . فقال الطبيب استوصِ فأنك ميت . فقال جزاك الله خيرا ان صدقتني ..
وعند خروج الطبيب نظر إليه عمر فوجد ثوبه يجرجر في الأرض فقال عمر انتظر بالله عليك ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك .
وظل عمر ثلاثة أيام يفيق ثم يغشى عليه ،
سأل عند إفاقته للمرة الثالثة : أين ابن عباس ، فقال اخرج فانظر من الذي قتلني ، إني أريد أن أعرف فعاد بن عباس وقال : يا أمير المؤمنين قتلك غلام المغيرة بن شعبة : أبو لؤلؤة المجوسي . فقال عمر ويله : فقد أمرت به معروفا . ثم قال الحمد لله أن جعلت قتلي على يد رجل ليس بمسلم ، حتى لا يحجني بين يديك بسجدة سجدها لك . وسأل عمر : هل اتفق معه المسلمون ؟ فقال ابن عباس يا معشر المسلمين هل تآمر مع أبي لؤلؤة المجوسي أحد .فقال المهاجرون والأنصار وهم يبكون : والله تمنينا أن نزيد عمر من أعمارنا ، فإن عمره نصرة للدين أما أعمارنا فستمضي .
وقالت نسوة المدينة ، والله لأن تموت أولادنا أحب إلينا من أن يموت عمر بن الخطاب . وصاحت أم كلثوم زوجة عمر: واعمراه . واعمراه أمات الفتنة وأحيا السنة . وقال أهل المدينة والله ما أصبنا بمصيبة أسوأ من هذة المصيبة .
وكانت عائشة أم المؤمنين تبكي بكاء شديدا لم تبك مثله على أبيها . قال عمر لابن عباس : يا بن عباس كنت تريد أنت والعباس أن تكثروا العلوج بالمدينة وكنت أقول لكم لا ، أرأيت ما حدث لي يا بن عباس فقال بن عباس لوشئت يا أمير المؤمنين لفعلنا ( أي نقتلهم جميعا ) قال عمر معاذ الله ، بعد ان دخلوا أرضنا وأكلوا من أكلنا وتكلموا بلساننا ؟ ثم قال له : إن كان أبو اللؤلؤة المجوسي مازال حيا فلا تمثلوا بجسده ، وإن كان مات فلا تمثلوا بجثته ..
استئذان عائشة
ودخل عليه شاب وقال أبشر يا أمير المؤمنين بالجنة ، هاجرت جهرا ، ونصرت الإسلام ، وصلى المسلمون بالكعبة منذ أن أسلمت وما كانوا يستطيعون أن يصلوا بها ، ومات رسول الله وهو عنك راض ، فبكى عمر ، وسأل وكيف ديوني ؟ فعدوا الديون فإذا هي ٨٦ ألف درهم . فقال عمر يارب من أين لي بهذا المال أسدد به ديوني . وطلب من عبد الله بن عمر أن يذهب بعد وفاته لآل بيت عمر واستأذنهم أن يسددوا ديون أمير المؤمنين . فظل الناس يجمعون المال حتى يلقى ربه وليس عليه دين جمعوا له ٨٦ ألف درهم بعد وفاة عمر بأسبوع ..
وفي اللحظات الاخيرة من حياته قال عمر لابنه : اذهب لأم المؤمنين عائشة وقل عمر بن الخطاب ولا تقل أمير المؤمنين فلم أعد للمؤمنين أميرا ، يستأذن منك أن يدفن بجوار صاحبيه ، فلم تعد له أمنية في الحياة إلا أن يكون بجوار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أذنت لك فأتِني سريعا . فيذهب عبد الله بن عمر إلى السيدة عائشة يقول : دخلت عليها فإذا هي تبكي بصوت نحيب . فقال لها : يستأذن منك عمر بن الخطاب أن يدفن بجوار صاحبيه . فقالت عائشة : والله كنت أريد هذا المكان لي ،أما وأنه بن الخطاب فأني أوثره على نفسي .
وعاد عبدالله بن عمر ، وعمر ينتظره ، قال ارفعوني فجاءه رجل فشده وأسنده من ظهره . فقال ماذا فعلت يا بن عمر ؟ قال : أبشر يا أمير المؤمنين ،أذنت . فقال الحمد لله .. والله ما كان يهمني شيء منذ سنين إلا أن أدفن بجوار صاحبي . ثم قال : يا بن عمر إذا أنا مت فاحملوني حتى تقفوا على بيت عائشة ولا تدخلوا . واستأذنها مرة أخرى ، وقال عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن بجوار صاحبيه فربما أذنت لك في الأولى حياء منك . يقولون فدفن بجوار صاحبيه . فبكت المدينة بكاء شديدا وهو يحمل نعشه بعد أن حكم المسلمين مدة عشر سنوات وستة أشهر وأربعة أيام.
Views: 0