{ إن هذه الأداة العظيمة- أداة الإدراك البشري- هي بلا شك موضع التكريم من الله- ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدين من عند الله،لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها؛ وهي كافية بذاتها للدلالة- دلالة هذا الإدراك البشري ذاته- على أن هذا الدين من عند الله،،،ومن ثم {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}.. }
.. نستكمل سويآ إن شاء الله أحبائى تدبرنا لآيات الذكر الحكيم وتمتعنا بوارف الظل الظليل لدرر كتاب الله عز وجلً،،،هدانا الله وهداكم إليه ونفعنا وإياكم بالقرآن:
– إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها، وإدراك مداها. فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين- قديماً وحديثاً- إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله. ويجعلون منه نداً لشرع الله. بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله!
الأمر ليس كذلك.. الأمر أن هذه الأداة العظيمة- أداة الإدراك البشري- هي بلا شك موضع التكريم من الله- ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدين من عند الله. لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها؛ وهي كافية بذاتها للدلالة- دلالة هذا الإدراك البشري ذاته- على أن هذا الدين من عند الله.. ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلماً بها، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم- بعد ذلك-تلقائياً بكل ما ورد في هذا الدين- لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها. فالحكمة متحققة حتماً ما دام من عند الله. ولا يهم عندئذ أن يرى المصلحة متحققة فيه في اللحظة الحاضرة. فالمصلحة متحققة حتماً ما دام من عندالله.. والعقل البشري ليس نداً لشريعة الله- فضلاً على أن يكون الحاكم عليها- لأنه لا يدرك إلا إدراكاً ناقصاً في المدى المحدود؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح- لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله- بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة؛ فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولاً إلى الإدراك البشري.
وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه؛ لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه! فالمصلحة متحققة أصلاً بوجود النص من قبل الله تعالى.. إنما يكون هذا فيما لا نص فيه، مما يجدّ من الأقضية؛ وهذا سبق بيان المنهج فيه، وهو رده إلى الله والرسول.. وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي. إلى جانب الاجتهاد في فهم النص، والوقوف عنده، لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها!!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة.. وهو ملك عريض!!!
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه- ثم لا نتجاوز به هذا المجال. كي لا نمضي في التيه بلا دليل. إلا دليلاً يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق.. وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل!!!
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى. أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم:
{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}..
والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر؛ وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو- ربما- لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها، حين يتلقاها لسان عن لسان. سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف..
فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة!- فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو.. إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعاً من التراخي- مهما تكن الأوامر باليقظة- لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية! كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة. وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكاً، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف.. وقد تكون كذلك القاضية!
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته.
أو هما معاً.. ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء… وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني.
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح:
{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة.
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن- بشرط الإيمان ذاك وحدّه- حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره. لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن لهم به. لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر- حتى بعد ثبوته- أو عدم إذاعته..
وهكذا كان القرآن يربي.. فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة.. بل بعض آية.. فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقلاً، مذيعاً له، من غير تثبت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة.. ووسطها يعلم ذلك التعليم.. وآخرها يربط القلوب بالله في هذا، ويذكرها بفضله، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته:
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}..
آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها؛ وتتناول القضية من أطرافها؛ وتتعمق السريرة والضمير؛ وهي تضع التوجيه والتعليم!!! ذلك أنه من عند الله.. {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}..
وحين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف؛ التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة- ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب- عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس. قمة التكليف الشخصي، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل، ولا خلل في الصف، ولا وعورة في الطريق. حيث يوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقاتل- ولو كان وحيداً- فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال.. وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر: فالله هو الذي يتولى المعركة. والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً:
{فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين،عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً}..
ومن خلال هذه الآية- بالإضافة إلى ما قبلها- تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك. كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين:
أ- يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم؛ وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه؛ حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في سبيل الله- ولو كان وحده- ليس عليه إلا نفسه؛ مع تحريض المؤمنين. غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم! ولو أن عدم استجابتهم- جملة- أمر لا يكون. ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو؛ واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة. فوق ما يحمله النص- طبعاً- من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي. وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه..
ب- كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك.. حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين: أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا؛ فيكون المسلمون ستاراً لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين.. مع إبراز قوة الله- سبحانه- وأنه أشد بأساً وأشد تنكيلاً.. وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك؛ والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم.. وربما كان هذا بين أحد والخندق. فهذه أحرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة؛ بين المنافقين، وكيد اليهود، وتحفز المشركين! وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين!
ج- كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية؛ وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها، إلى شدة الارتباط بالله؛ وشدة الطمأنينة إليه؛ وشدة الاستعانة به؛ وشدة الثقة بقدرته وقوته.. فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته. وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني؛ والله هو الذي خلق هذه النفوس. وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تُقّوى وكيف تستجاش وكيف تستجيب..
وبمناسبة تحريض الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به في آخر الدرس، وذكر المبطئين المثبطين في أوله، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة- وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون:
{من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً}..
فالذي يشجع ويحرض ويعاون على القتال في سبيل الله، يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها. والذي يبطئ ويثبط تكون له تبعة فيها وفي آثارها.
وكلمة {كفل} توحي بأنه متكفل بجرائرها.
والمبدأ عام في كل شفاعة خير، أو شفاعة سوء. وقد ذكر المبدأ العام بمناسبة الملابسة الخاصة، على طريقة المنهج القرآني، في إعطاء القاعدة الكلية من خلال الحادثة الجزئية، وربط الواقعة المفردة بالمبدأ العام كذلك. وربط الأمر كله بالله، الذي يرزق بكل شيء. أو الذي يمنح القدرة على كل شيء. وهو ما يفسر كلمة مقيت في قوله تعالى في التعقيب:
{وكان الله على كل شيء مقيتاً}.
ثم استطرد السياق بعد ذكر الشفاعة إلى الأمر برد التحية بخير منها أو بمثلها. والتحية في المجتمع علاقة من العلاقات التي تدور بها عجلة الحياة في يسر، إذا اتبع الأدب الواجب فيها.. والمناسبة قريبة بينها- في جو المجتمع- وبين الشفاعة التي سبق التوجيه فيها:
{وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيباً}..
وقد جاء الإسلام بتحيته الخاصة، التي تميز المجتمع المسلم؛ وتجعل كل سمة فيه- حتى السمات اليومية العادية- متفردة متميزة؛ لا تندغم ولا تضيع في سمات المجتمعات الأخرى ومعالمها..
جعل الإسلام تحيته: السلام عليكم أو السلام عليكم ورحمة الله أو السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. والرد عليها بأحسن منها- بالزيادة على كل منها ما عدا الثالثة فلم تبق زيادة لمستزيد- فالرد على الأولى (وعليكم السلام ورحمة الله) والرد على الثانية (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته). والرد على الثالثة (وعليكم..) إذ أنها استوفت كل الزيادات، فترد بمثلها… وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم..
ونقف أمام اللمسات الكامنة في آية التحية هذه:
إنها- أولاً- تلك السمة المتفردة، التي يحرص المنهج الإسلامي على أن يطبع بها المجتمع المسلم بحيث تكون له ملامحه الخاصة، وتقاليده الخاصة- كما أن له شرائعه الخاصة ونظامه الخاص- وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الخاصية بالتفصيل عند الكلام عن تحويل القبلة، وتميز الجماعة المسلمة بقبلتها، كتميزها بعقيدتها. وذلك في سورة البقرة من قبل في الظلال.
وهي- ثانياً- المحاولة الدائمة لتوثيق علاقات المودة والقربى بين أفراد الجماعة المسلمة.. وإفشاء السلام؛ والرد على التحية بأحسن منها، من خير الوسائل لإنشاء هذه العلاقات وتوثيقها. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل خير؟ قال: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». هذا في إفشاء السلام بين الجماعة المسلمة ابتداء. وهو سنة. أما الرد عليها فهو فريضة بهذه الآية.. والعناية بهذا الأمر تبدو قيمتها عند الملاحظة الواقعية لآثار هذا التقليد في إصفاء القلوب، وتعارف غير المتعارفين؛ وتوثيق الصلة بين المتصلين.. وهي ظاهرة يدركها كل من يلاحظ آثار مثل هذا التقليد في المجتمعات، ويتدبر نتائجها العجيبة!
وهي- ثالثاً- نسمة رخية في وسط آيات القتال قبلها وبعدها.. لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية.. السلام.. فالإسلام دين السلام. وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض، بمعناه الواسع الشامل. السلام الناشئ من استقامة الفطرة على منهج الله.
========================
Views: 82